من الصعب أن يتهرب الإنسان من تأثير التلفزيون ( التلفاز) . وإذا انطبقت عليك متوسطات الإحصاءات فأنت حين تبلغ العشرين من عمرك تكون تعرضت لما لا يقل عن عشرين ألف ساعة من البث التلفزيوني ينطبق هذا الإحصاء على مواطني الدول التي يبث فيها التلفزيون برامجه قبل الظهر وبعده إضافة إلى فترة المساء التي تمتد برامجها إلى ما بعد منتصف الليل
ويمكنك إضافة عشرة آلاف ساعة إلى كل عشر سنين تعيشها بعد العشرين .
وحدها ساعات العمل والنوم تفوق ساعات مشاهدة التلفزيون في بلدان كثيرة .
لنحسب الآن ما يمكننا الإفادة منه في جزء من هذه الساعات .
قيل لي إن خمسة آلاف ساعة هي ما يحتاج إليه الطالب في التحضير لنيل شهادة البكالوريوس الجامعية .
وخلال عشرة آلاف ساعة يمكنك أن تتعلم ما يكفي لتصبح قاضيا أو مهندسا، وأن تتعلم لغات عدة فتتكلمها بطلاقة . وإذا كان الأمر يروقك ، فلك أن تقرأ أشعار هوميروس في لغته اليونانية الأصلية أو مؤلفات دستويفسكي في الروسية . وإذا كان الأمر لا يروقك فيمكنك أن تمشي حول العالم وتدون ما شاهدته في كتاب .
المشكلة في التلفزيون أنه لا يساعد على التركيز . وكل مثير وجيد في الحياة يحتاج إلى بعض الإستنتاج البناء والجهد المتواصل . والأشخاص غير الموهوبين بيننا يمكنهم تحقيق إنجازات شبه عجائبية بالنسبة إلى ذوي التركيز الضعيف .لكن التلفزيون يشجعنا على عدم بذل أي جهد . إنه يبيعنا سرورا آنيا ويلهينا لكي يمضي الوقت من دون ألم وإزعاج .
وتصبح المنوعات التلفزيونية مادة مخدرة لا حافزا منبها . والمسلسلات المعروضة تجبرنا على متابعتها وتقودنا إلى حيث ترغب . ويغدو المشاهد كأنه في رحلة سياحية مبرمجة . والفترات مرتبة زمنيا بالدقيقة والثانية ومركزة على مختارات مثل تحطم السيارات وحوادث العنف والصدامات بين الناس . باختصار ، يغتصب التلفزيون أفضل مواهب الإنسانية ، وهي القدرة على تركيز انتباهك بإرادتك لا تسليم هذا الإنتباه تسليما .
ويستحوذ التلفزيون على انتباهك ويحتفظ به ، وهذا أهم حافز لبرمجة التلفزيون ولدوره كأداة إعلانية رائجة ورابحة .
ويعيش المبرمجون في قلق دائم من إعراض الناس عن التلفزيون . لذلك هم يحرصون على جعل ما يقدم مختصرا وسريعا على نحو لا يتعب المتفرج ويغني فضوله من خلال التنويع والتجديد والحركة الدائمة . ببساطة ، يعتمد التلفزيون على لفت الانتباه لفترات محددة قصيرة.
انها الطريقة الأسهل ، وهي باتت تعتبر من المستلزمات التي تقضي بث برامج لا تتطلب تركيزا يتجاوز بضع دقائق.
وهذا في موضع التلفزة مقبول . فمن يرغب في الخصام مع إدارة تصنع البهجة والفرح وتبيعهما في السوق التجارية للجميع ؟ لكنني أرى هذه القيم تشمل شعوب الأرض وحياتها كذلك . وقد بات الرأي السائد أن الأفكار السريعة ، مثل الطعام السريع، هي الوسيلة الفضلى لإرضاء جمهور مستعجل لا يطيق الصبر.
وفي حال النشرات الإخبارية تؤدي هذه الممارسات إلى تبليغ وتبلّغ غير كافيين .
وأتساءل كم من الجهد يبذل في نشرة الأخبار المسائية التي يبثها التلفزيون ليفهمها المشاهدون ويهضموها ؟ معظم ما يذاع يشبه مدافع تقذف الأخبار .وأعتقد أن التكنولوجيا تحارب الفهم ، وأن البث في النهاية يدعو إلى الملل وصرف النظر ( إلا إذا كانت النشرة الإخبارية مصحوبة بصور راعبة ) لأن كل شيء في النهاية ممل ولا يثير الانتباه إذا كنت لا تعرف عنه شيئا .
أنا أؤمن بأن التلفزيون يتوجه إلى جذب الإنتياه السريع ، وهو أداة غير جيدة وغير حضارية للاتصال الفكري . لنأخذه كأداة تثقيفية : إنه يتجنب التعقيد ، ويعتمد الحافز البصري بديلا من الفكر والتعبير اللفظي . وقد تكون فكرتي رجعية ، لكنني تعلمت أن الفكر يعبر عنه بالكلمات المرتبة بطريقة لغوية محددة .
وهناك مشكلة الأمية التي يعانيها معظم الشعوب . هناك ملايين الأميين الذين يقرؤون ولا يكتبون للإجابة عن استمارة أو لفهم تعليمات مكتوبة على زجاجة دواء .
الأمية ليست حقا من حقوق الإنسان غير القابلة للتعديل . إنها في عرف أجدادنا الأولين داء يجب محوه ومرض لا سبب عقلانيا لقبوله .إننا لم نتوصل إلى محو الأمية بعد ، وتنبئنا الإحصاءات بأننا نبعد عن هذا الهدف يوما بعد يوم . وأرى أن التلفزيون ، يساهم في نشر الأمية .
كل شيء في العالم ـ البنية الإجتماعية والمؤسسة العائلية والنظام الإقتصادي والوضع العالمي ـ أصبح أكثر تعقيدا من قبل . ومع ذلك تبقى وسيلة الإتصال المهيمنة التي تعد رابطة وطنية وثيقة هي التي تبيع الحلول الجيدة لمشاكل الإنسانية التي لا حلول جيدة لها.
إنه فن ناضج ، التلفزيون عنصر أساسي ، بل هو نقطة ارتكاز في حضارتنا : ثلاثون ثانية إعلانية وتلوح المأساة الصغيرة لزوجة تجد السعادة في اختيار معجون الأسنان الأفضل .
متى في التاريخ خصصت الإنسانية جمعاء هذا المقدار من وقت اللهو للعبة واحدة ، لملهاة الجماهير؟ وهل سبق أن استسلمت أمة بكاملها لوسيلة إعلامية تتوخى البيع الرابح؟.
قبل سنوات كتب أستاذ القانون في جامعة ييل تشارلز بلاك جونيور : " إن الأكل بالقوة في سوق الإبتذال ليس مسألة تافهة"
وأعتقد أن هذا المجتمع أجبر على تناول الطعام في سوق الإبتذال ، وأخاف أن يكون تأثير ذلك سيئا في تفكيرنا ولغتنا واحتمالنا لجهد وقابليتنا للتعقيد . وإذا كنت على خطأ ، فإننا لا نسيء فعلا إذا تحققنا من هذا الأمر بموضوعية وفكرنا في وسائل فاعلة لجبه تأثيره . وأتمنى أن تنضم أنت إلي في إعادة النظر .*